أقلام القراء / د. محمد عناد سليمان
لم تقم «الثَّورة السُّوريَّة» من أجل إسقاط القيم الاجتماعيَّة والمعنويَّة العُليا التي يتحلَّى بها أبناؤها، أو السَّعي من أجل استبدال «نظام ديكتاتوريِّ» بـ«نظام ديكتاتوريِّ» آخر، ولم يُقدِّم «الشَّعب السُّوريّ» التَّضحيات التي قدَّمها، والتي أصبحت فريدة العصر، ووحيدة الدَّهر من أجل التَّنازل عن أدنى مكتسبات «الثَّورة» وهي إسقاط «النِّظام» بكل رموزه وأركانه.
وقد يخالفني بعض النَّاس والباحثين في قولي: «أدنى مكتسباتها»؛ ليجعل من «إسقاط النِّظام» السَّقف الأعلى الذي ينشده «الشَّعب الثَّائر» وهو أعلى مكتسباتها؛ لجهله بخطَّة السِّير الذي تجري عليه «الثَّورات»؛ على اعتبارها نقطة انطلاق نحو تاريخ جديد في المجالات كافَّة، وليس قصرها على الجانب «السِّياسيّ» فحسب.
وأرى أنَّ الأمر بخلاف ذلك اعتمادًا على نظرةٍ تاريخيَّة لـ«الثَّورات» التي قامت عبر تاريخنا المعاصر، و«الثّورة السُّوريَّة» ليست بدْعًا منها، إذ إنَّ أيَّ «ثَّورة» تبدأ طمعًا في إحداث إصلاحٍ وتغييرٍ «اجتماعيّ» يؤمِّن لها شيئًا من حقِّ «المواطنة»، أو تغيير «اقتصاديّ» يسدُّ كفافها وحاجتها، ويوفِّرُ لها المستلزمات الضَّرورية لتكون فعَّالة في مجتمعٍ تشكِّلُ اللبنة الأساسيَّة في تكوينه، ثم تصل إلى إحداثِ إصلاحٍ «سياسيّ» عند تعذُّر الاستجابة لمطالبها الأُولى، وهذا ما حدث في «الثَّورة السُّورية» عند انطلاقتها.
إنَّ مطالبة «الثَّورات» بإسقاط «النِّظام السِّياسيّ» القائم لا يعني بالمطلق التَّنازل عن الإصلاحات «الاجتماعيَّة»؛ و«الاقتصاديَّة»؛ و«التَّعليميَّة» التي كانت المطالب الأولى لـ«الشَّعب»، وإنَّما انتقال «فكريِّ» من القاعدة إلى الهرم، من أجل امتلاك «القرار السِّياسيّ» الذي يمكِّنها من إحداث ما تراه مناسبًا في المجالات كافَّة بما يحقِّقُ لها الاستقرار والازدهار.
لكنَّ الأمور في «الثَّورة السُّوريَّة» أخذت منحًا متطرِّفًا، نخر فكْرَ مثقَّفيها، ومعارضيها، حتى أصبحت «الثَّورة» بالنِّسبة إليهم «ورقة عمل» يطرحونها على طاولة «المزادات» لتحصيل أكبر مكسب شخصيٍّ ممكن، فنرى بين الفينة والأخرى بعض المعارضين كالسَّيِّد «معاذ الخطيب» ومن نحا نحوه يسعى جاهدًا من أجل الحوار مع «النِّظام» تحت ذريعة إنهاء «المأساة السُّوريَّة»، متجاهلا عمدًا أنَّ بعض المناطق «السُّورية» قد أصبحت خارج سلطة «النِّظام»، وما «الحوار» إلا من أجل إعادتها إلى هيمنته وسيطرته وإدارته.
ونحن بلا شكّ مع الحلِّ السِّلميّ الذي يضمن سلامة «الأرواح»، و«الأعراض»، و«الممتلكات»؛ عبر حوار لا يكون لـ«النِّظام» ورموزه «الإجراميَّة» أيَّ دور فيه؛ لأنَّ المكان الذي ينبغي أن يكونوا فيه هو «محكمة الجنايات الدُّوليَّة»، لا طاولة «المفاوضات» التي تكون هذه «الرُّموز» طرفًا فيه، وفي الوقت نفسه لا نعارض طرح هذه الأفكار على «الأطراف» الفاعلة في «الأزمة»، والتي تدعم «النِّظام» دعمًا مفتوحًا «سياسيًّا»، و«عسكريًّا» كـ«روسيا»، و«إيران»؛ بل ندفع باتجاه الجلوس معهم للخروج بـ«حلِّ» يضمن حقوق «الشَّعب» الذي قام بـ«ثورته» من أجلها.
لذلك نرى أنَّ مجرِّد القبول بفكرة بقاء «النِّظام» لفترة انتقاليَّة قادمة هو «تطرُّف فكريِّ» ينخر جسد «الثَّورة» التي لم تُحقِّق أدنى مكتسباتها في إسقاط «النِّظام» لتتابع طريقها في إنجاز أهدافها في تحويل المجتمع «البعثيِّ» إلى مجتمع تعدُّدي «ديمقراطيّ» وهذه مهمَّة بلا شك تحتاج عقودًا من الزَّمن، لأنَّها تتعلَّق بالفكر «السُّوريّ» وليس بـ«السِّياسة» و«رجالاتها».
وفي المقابلِ أيضًا نجدُ «تطرُّفًا فكريًّا» من نوع آخر يتمثَّل في الدَّعوة إلى «إهدار» دمِ من يرى بقاء «النِّظام» لفترة انتقاليَّة قادمة على نحو ما رأيناه من دعوة السِّيد «عبد الرَّزاق عيد»، وهذا بلا شكِّ يشير إلى الفجوة العميقة التي ما يزال يعيشها «الفكر السُّوريّ» في رفضه الآخر من الجانب نفسه، فكلاهما من «المعارضة»، وكلاهما لم يصل إلى مرحلة تقبُّل الآخر، والاستماع إلى ما يطرحه من أفكار قد تكون مقبولة، أو مرفوضة على حسب الظَّرف الذي تُطرح فيه، وإن كانت تمسُّ بجانب منها «المبادئ» الأساسيَّة التي خرجت «الثَّورة» من أجلها.
ولا يخفى على أحد الأخطاء؛ بل «الجرائم» السِّياسيَّة التي ارتكبتها «المعارضة السُّوريَّة» بحقِّ «الثَّورة» التي تدَّعي أنَّها تمثِّلها بدْءًا من عدم إيجاد «حليف سياسيّ» لها، مرورًا بعدم تحديدها «العدوُّ» السِّياسيّ الحقيقيّ الذي لا يريد لـ«الشَّعب» أن ينال حقَّه في حريّته وكرامته، ومشاركتها الفاعلة في موتها إعلاميًّا، وقتْل جيلٍ من خلال فقدان حقِّه في «التَّعليم»، إذ إنَّنا سنجد في مرحلة قادمة بعد سنوات من الآن «جيلا» لا ينتمي إلى مجتمعه بشيء إلى من خلال «الاسم» فقط، وكذلك مشاركتها «النِّظام» في احتواء «الثَّورة» من خلال «ضبَّاط الارتباط» الذين يدَّعون انشقاقهم، أو من خلال «عملائهم» في «الغُرَف» التي تقود العمليات «العسكريَّة» في «تركيا»، و«الأردن»، ولا يشكُّ عاقل في أنَّ هذه «الغُرف» إنَّما هي «مقارُّ استخباراتيَّة» الهدف منها «تقويض» «الثَّورة» وإدارة الفوضى المتعمَّدة التي تجري في منطقة «الشَّرق الأوسط»، وليس انتهاء بـ«القادة» الذي رهنوا أنفسهم لـ«الجهة» المموِّلة والدَّاعمة بحيث أصبحت «الأرضُ السُّوريَّة» أرضًا «محتلَّة»، يُتَّخذُ القرار فيها من قبل جهات أخرى غير «سوريَّة»؛ ومَّما لا شكَّ فيه أنَّ كلّ هذا هو «تطرُّف فكريّ» يتغلغل في «العقل «السُّوريّ» ممَّن تصدَّر المشهد والعمل.