أقلام القراء / د. يوسف بن مئيـر / رئيس مؤسسة الأطلس الكبير / المغرب
للتقدّم بثبات بالتنمية البشريّة والإستقرار السياسي، ينبغي على دول الربيع العربي أن تدع الموارد الضروريّة تصبح لامركزيّة وأن تجعلها على المستويات المحليّة وذلك لتحفيز وتنفيذ التنمية المحليّة. ويعتبر المغرب بشكل ٍ متزايد نموذجا ً للتقدّم الناجح في الربيع العربي نظرا ً لاستقراره وفرصه وتنوّعه الحضاري. وفي نفس الوقت، هناك أيضا ً على أية حال تحديّات داخليّة في غاية الصعوبة من شأنها أن تقوّض مستقبل المغرب والمتمثلة في فقر الأرياف، قنوط الشباب والتفاوت الإقتصادي الشديد والإستغلال المألوف للأيدي العاملة.
فإذا استطاع المغرب أن يقوم بفعاليّة بالتنمية التشاركيّة ويبني أنظمة ديمقراطيّة من خلال اللامركزيّة، قد يصبح النموذج محلّ اهتمام إعلامي بالنسبة لشعوب بلدان الربيع العربي الأخرى لتحقيق نوعية المستقبل الذي ينشدونه. فلخبرات وتجارب المغرب التنمويّة إذن علاقة وثيقة بالموضوع، أقليميّا ً ودوليّا ً.
إنّ استقرار المغرب نسبيّا ً من الناحيتين الإجتماعيّة والسياسيّة خلال فترة الربيع العربي يعود بشكل ٍ أساسي لقيام جلالة الملك محمد السادس بصورة مبكرة وبشكل ٍ متماسك ومتواصل بتشجيع التنمية البشريّة منذ عام 2008 والتزامه بالحكم اللامركزي، الأمر الذي تنصّ عليه الآن المادة الأولى من الدستور المغربي الجديد لعام 2011.
فالرؤية الصحيحة للتنمية التي خطا فيها المغرب خطوات مهمّة وتنفيذها الناجح (الذي لم يحققه المغرب للأسف على الوجه المطلوب) أمران ضروريان للتوصّل لاستقرار اجتماعي وسياسي طويل الأمد في بلدان الربيع العربي.
قد تكون بعض الحكومات، كالعراق مثلا ً، متردّدة في القيام بخطوات لامركزيّة لخوفها بأن هذه العمليّة قد تشجّع الإنفصال وتصبح سببا ً للصراع. ولكن غالبا َ ما يكون ذلك نتيجة الإفتقار في التفويض لصنع القرارات على المستوى المحلّي، الأمر الذي يزيد من المقاومة السياسيّة والتوتّر والصّراع الطائفي والعنف.
وفي حين أنّ اللامركزيّة قد تعطي السياسيين والبروقراطيين شعورا ً بعدم تمكنهم بعد من ممارسة السياسة وأنهم أصبحوا أقلّ نفوذاً في المجتمع، غير أنّ المستوى المركزي يبقى رغم ذلك حيويّا ً في المجالات التي يعتبر هوالمسؤول عنها، مثل السياسات الإقتصاديّة والخارجيّة والقضاء والأمن وأهداف التنمية التي تشجّع التوازن بين الأقاليم وتنفيذ هذا التوازن. وقد تساعد مثل هذه المركزيّة أيضا ً تجنّب وصدّ أشراك اللامركزيّة المنفذة بشكل ٍ سيّء، مثل تخفيض الوقاية الإجتماعية والتطبّق الإجتماعي والجغرافي ذات الشأن الكبير.
والسؤال الذي يطرح نفسه هو: هل ستكون الإضطرابات الطائفيّة و "داعش" في العراق اليوم أقلّ حدّة أو لربّما ستختفي لو تبنّت الدولة نظام الفدراليّة (وهو شكل من النظام اللامركزي) في عام 2006 أو حتّى قبل ذلك ؟ ومهما بدا ذلك صعب المنال أو التحقيق في الوقت الحاضر، فإن لامركزيّة السلطة لمستويات محليّة تكون قريبة بقدر الإمكان من الشعب هي الطريقة الحيويّة الوحيدة للشعب العراقي للشعور بأنه يتحكم بحياته ومصيره ويكون لديه حتّى فرصة متواضعة لاختبار بعضهم البعض من شخص لآخر، أي تواصل سنّي-شيعي يستطيع في الواقع بناء عمليّات محليّة من اعتراف بعضهم البعض ومن التنمية المشتركة. فإذا أصبح هذا هو الوضع، سيتمّ رفض "داعش" من قلوب وعقول معظم الناس. وقد يكون لشكل ٍ من أشكال الحكم الذاتي المشروع ضمن مفهوم السيادة الوطنيّة الشاملة (الشبيه بحلّ المغرب المقترح للصحراء الغربيّة، الإقليم الجنوبي من المغرب) مفعولاً من حيث تقليص العنف والصراع الشيعي – السنّي. واللامركزيّة تعني أيضا ً زيادة القدرات الدفاعيّة للبلد وذلك لأنها تجعل أي هجوم عسكري على المراكز الشعبيّة أكثر صعوبة.
وكحافز، قد يرى نهج التنمية البشريّة اللامركزي آلاف المشاريع الصغيرة على المستوى المحلّي، وهذه المشاريع تحددها المجتمعات والجاليات المحليّة وتتحكّم بها بدلا ً من عدد ٍ قليل من المشاريع الكبيرة المكلفة المقترنة بها مخاطر أكبر. وتأتي الفوائد للجاليات والمجتمعات المحليّة من مشاريع يتمّ تنفيذها بسرعة أكبر. أضف إلى ذلك، مثل هذه التنمية البشرية ملائمة بدقّة للمساعدة في تقصير فترات الركود وتعزيز النموّ. وفرضيّة المشاركة هي أن يقع تحديد أوقات الإجتماعات وتنفيذ المشاريع وعملية التتنمية بشكل ٍ عام على عاتق الناس الذين يعملون في التجمعات المحليّة.
تحتاج القرى والأحياء لميسّرين من أطراف ثالثة لحوار المجموعات ولتطبيق أساليب التخطيط التشاركي لتقييم المجتمع وبناء توافق الآراء. وبالفعل، تعكس كمية المشاريع المحليّة وثباتها بشكل ٍ كبير مدى إشراك هؤلاء الميسّرين بهذه الطريقة. وقد يكون الميسّرون معلّمي مدارس أو أعضاء من المجتمع المدني أو مسؤولين منتخبين محليّا ً أو طلبة جامعة أو رجال أعمال أو قادة دينيين أو متقاعدين أو عمّال تنمية، أي عمليّا ً أي شخص قادر على التفاعل مع المجتمعات المحليّة ومقبول منها في هذا الدّور.
لقد خلقت المبادرة الوطنيّة المغربيّة للتنمية البشريّة التي تُدار على المستوى الإقليمي إطارا ً للمشاريع التي تعكس أفكار الناس وكذلك التدريب اللازم للجاليات والمجتمعات المحليّة لتحديد تلك المشاريع التي لها أولويّة. أضف إلى ذلك، فإن عملية اللامركزيّة المغربيّة والمبادرة الوطنية المغربيّة للتنمية البشريّة متعاونتان وتعزّز كلّ منهما الأخرى. فالمبادرة الوطنية قد تساعد في بناء تشاركيات جديدة وهياكل جهويّة عبر المزيد من تخصيص التمويل المالي لها ومن خلال التدريب وتنفيذ المشاريع، وهذه من حيث الجوهر طوب وملاط وإدارة لامركزيّة. وتنفيذ مشاريع بهذه الطريقة قد يخلق السّبل والتشاركيّات والترتيبات المؤسساتيّة المتأصلة في الأنظمة اللامركزيّة.