أقلام القراء / د. محمد عناد سليمان
عزف كثيرٌ من أهل العلم عن الولوج في بعض المسائل والقضايا والأحكام «الفقهيَّة» بحجَّة أنَّها أُشبعت بحثًا، وأنَّ العلماء قد بَعجُوا أصولها، وجاوزوا القنطرة فيها، ولا علم بعد علمهم، ولا حكمَ إلا حكمهم، وما ذلك إلا وهْمٌ عاشه علماء «الأمَّة»، قلَّة من «المتقدِّمين»، وثلَّة من «المتأخِّرين»، وما عزوفهم إلا بسبب ما قد يتعرَّضون له من اتّهام بـ«الكفر»، أو «الزَّندقة».
وكتبُ «التَّاريخ» و«التَّراجم» حُبْلى بمثل ذلك، فقد نبغ لدينا عددٌ من العلماء ممَّن نفتخر ونعتزُّ بهم، وقدَّموا لـ«لأمَّة» والعالم ما ينفعهم إلى يوم «الدِّين» في العلوم كافَّة، ولو أنَّنا تابعناهم في ذلك لما وصلنا إلى ما وصلنا إليه من تراجع، وتقهقهر، ونذكر منهم «الخوارزميّ»، و«الفارابيّ»، و«ابن سينا»، و«ابن الهيثم»، و«ابن حيَّان»، و«النّوويّ»، و«ابن المقفَّع»، و«الطَّبريّ»، و«المتنبيّ»، و«العسقلانيّ»، و«ابن رشد»، و«ابن بطوطة»، و«ابن خلدون»، و«الرَّازيّ»، و«الأصفهانيّ»، وغيرهم كثير.
لكنَّهم مع نبوغهم، وإبداعهم لم يسلموا من نقْدِ علماء «الدِّين» لهم، الذّين وصل بهم الأمر إلى تكفيرهم، وحرق كثير من كتبهم، كالإمام «الغزاليّ»، وقد وصف الإمامُ «الذَّهبيّ» في كتابه الكبير «سير أعلام النُّبلاء» كتاب «الغزاليّ» بقوله: «أراد إحياء الدّين فأماته»، ونظيره ما وقع لـ«لسان الدِّين ابن الخطيب» حيث حرقوا جثَّته؛ لما أورده في كتابه «روضة التّعريف بالحبّ الشّريف»، وسارع الوزير «سليمان بن داود» إلى قتله ليلة مثوله للدّفاع عن نفسه.
وكذلك «ابن الفارض» الذي طاردوه في كلّ مكان بعد تكفيره واتهامه بـ«الزَّندقة»، ووصفه بعض العلماء بـمؤسِّس«عبادة الأنثى» لما أورده في شعره من ذلك. ومثله وصف «ابن الجوزيّ» كتاب «الأغاني» بأنَّ فيه كلّ قبيح ومنكر، في حين نجده من أعظم الكتب في ميدانها كما يظهر من وصف «التّنوخي» إذ يقول: «ومن المتشيِّعين الذين شاهدناهم «أبو الفرج الأصبهاني»، كان يحفظ من الشّعر، والأغاني، والأخبار، والآثار، والأحاديث المسندة، والنّسب، ما لم أر قطّ من يحفظ مثله، ويحفظ دون ذلك من علوم أخر منها: اللّغة، والنحو، والخرافات، والسِّيَر، والمغازي، ومن آلة المنادمة شيئاً كثيراً، مثل علم الجوارح، والبيطرة، ونتف من الطّب، والنّجوم، والأشربة وغير ذلك، وله شعر يجمع إتقان العلماء وإحسان الظّرفاء الشُّعراء».
وما أرى سببًا لذلك إلا تدخُّل رجال «السِّياسة»، ودور «الطَّائفيَّة» البغيضة في رفع شأن بعض العلماء، والوضْعِ من شأن آخرين، كما يظهر من قول «التَّنوخي» السَّابق، لذلك وجدنا «ابن القيم» يصفُ «ابنَ سينا» بأنَّه إمام «الملحدين» الكافرين بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، واتَّهمه «الكشميريّ» بأنَّه «ملحد زنديق قرمطيّ».
والأمر ذاته نجده مع «الفارابيّ» حيث كفَّروه لمجرّد محاولته محاكاة العلم، والبحث فيه، والحديث عن جوهرين من جواهر الفلسفة؛ هما: الموجود الممكن الوجود، والموجود الواجب الوجود، ونظيره الإمام «الطُّوسيّ» الذي كان أوَّل من كتب في علم المثلَّثات بمعزل تام عن الفلكّ، وأوَّل من استعمل الحالات السِّتَّة للمثلث الكروي القائم الزَّاوية، وهو من صاغ قانون «الجيب» للمثلَّثات المسطَّحة، وقد أطلق اسمه على كوكب فلكيّ اكتشفه أحد العلماء «السُّوفييت» عام 1979م تخليدًا لذكراه، في الوقت الذي نجدُ كثيرًا من علماء العصر يعزفون عن القراءة في كتبه؛ لا ذنب له إلا أنَّه شيخ «الشِّيعة» في «التَّفسير»، ولو أنَّهم قرؤوا شيئَّا من «تفسيره» لعلموا أنَّ ما نراه اليوم من «تطرُّف» ما هو إلا بفعل رجال «السِّياسة» وخبثها.
ولعلَّ من أهمِّ القضايا والأحكام التي لا بدَّ من مراجعتها والنَّظر فيها «الحدود الدِّينيَّة» والتي يُنسب كثيرٌ منها إلى «الإسلام» وهو منها بريء، ويأتي في مقدِّمتها مسألة «الرَّجم» حتى الموت فيما إذا ثبتَ «الزِّنا» للمتزوِّج، ذكرًا كان أم أنثى.
وسنحاول في هذا البحث أن نناقش الأدلَّة التي اعتمدوا عليها في ذلك، ومقارنتها بما نصَّ عليه «القرآن» الكريم، وهل ورد ذكر لـ«الرَّجم» تلميحًا أو تصريحًا في «القرآن» الكريم؟ وهل ثمَّة تعارض بين ما ورد من «أحاديث» في ذلك، وبين صريح «لفظ» «القرآن»؟ أمَّ أنَّ «الرَّجم» حكمٌ «موضوع» و«دخيل»، جعلوا له أصولا من خلال «أحاديث» نُسبت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو بعض «الصَّحابة» رضوان الله عليهم؟!
ولا ندَّعي أنَّنا أوَّل من تكلَّم في هذه «المسألة»؛ بل سبقنا إلى ذلك عدد من العلماء الأقدمين والمتأخِّرين، وقد أُهملت أقوالهم إمَّا بسبب «الطَّائفيَّة» التي أسلفنا الحديث عنها، أو لأنَّ أقوالهم جاءت في وقت تحوَّل الحكم من «وهْمٍ» إلى «حقيقة» يصعب على النَّاس قبولها، في ظلِّ سيطرة «الجهل»، و«عبوديَّة» العقل ورهنه لـ«السَّماع» دون البحث والتَّمحيص.
إنَّ العودة إلى «القرآن» الكريم من أجل البحث عن «حدِّ» «الزَّاني» يلزمنا معرفة «الآيات» التي ذكرته، والسِّياق الذي وردت فيه، وكيف نظر «المفسِّرون» إليها ليجعلوا منها دليلاً على وجود حكم «الرَّجم»؛ وهل أصابوا في ذلك أم لا؟!
ولعلَّ من أهم «الآيات» التي نقف عليها قوله تعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُم بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ}النور2.
والظَّاهر منها أنَّه لا وجود لذكر لفظة «الرَّجم» فيها، وإنَّما نجدُ «الجلْدَ» فقط، وسمَّاه الله عزّ وجلَّ «عذابًا» كما تنصُّ «الآية» نفسها في قوله: {وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ}، وسنأتي على دراسة ذلك عند مناقشة وتنفيد «الحجج» و«الأدلَّة».
إلا أنَّ بعض «المفسِّرين» قد رأى أنَّ ثمَّة «آية» في كتاب الله تنصُّ على حدِّ «الرَّجم» على نحو ما يطالعنا به «الشَّنقيطيّ» في «تفسيره» إذ يقول: «اعلم أنَّ رجم الزَّانيين المحصنين دلَّت عليه آيتان من كتاب الله، إحداهما نُسخت تلاوتها، وبقي حكمها، والثَّانية: باقية التِّلاوة والحكم».
وهو يشير في الأولى التي نُسخ لفظها، وبقي حكمها إلى قوله تعالى: «والشَّيخ والشَّيخة إذا زنيا فارجموهما البتة نكالا من الله، والله عزيز حكيم»، أمَّا الثَّانية فهي قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوْتُواْ نَصِيباً مِّنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِّنْهُمْ وَهُم مُّعْرِضُونَ}آل عمران23.
وسنناقش «الأولى» عند إيراد «الأحاديث» التي استندوا عليها في إثباتها، أمَّا الآية «الثَّانية» فلا حجَّة فيها، ولا دليل يقوم عليها، إلا ما رواه «الكلبيُّ» في «أسباب» نزولها عن «أبي صالح» عن «ابن عبَّاس» رضي الله عنه، فذكر أنَّها نزلت في «رجم اليهوديين الزَانيين بعد الإحصان، وقد رجمهما النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم»، واحتجَّ «الشَّنقيطيّ» بها قائلا: «ثم يتولَّى فريق منهم وهم معرضون: أي عمَّا في التَّوراة من حكم الرَّجم، وذمِّ المعرض عن الرَّجم في هذه الآية دليل على أنَّه ثابت في شرعنا، فدلَّت الآية على هذا القول أنَّ الرَّجم ثابت في شرعنا، وهي باقية التِّلاوة»، وفيما قاله نظر، وحجَّة على من يرى أنَّ «شرع» محمّد صلى الله عليه وسلم قد نسخ «الشَّرائع» السَّابقة، لذلك وجدنا «القرطبيَّ» يقول: «وفيها دليل على أنَّ شرائع من قبلنا شريعة لنا، إلا ما علمنا نسخه، وإنَّه يجب علينا الحكم بشرائع الأنبياء قبلنا، على ما يأتي بيانه، وإنَّما لا نقرأ التوارة، ولا نعمل بما فيها؛ لأنَّ من هي في يده غير آمن عليها، وقد غيَّرها، وبدَّلها، ولو علمنا أنَّ شيئًا منها لم يتغيَّر، ولم يتبدَّل جاز لنا قراءته».
إنَّ ما أورده «الشَّنقيطيّ» يردُّه بعض الأخبار الأخرى التي تعارض ما ذكره من سبب النِّزول، فذكر جمهرة من المفسِّرين كـ«الطَّبريّ»، و«البغويّ»، و«الرَّازيّ»، و«أبي حيَّان» وغيرهم أنَّ من أسباب نزولها ما جرى بين النَّبي صلى الله عليه وسلم وبين بعض «اليهود» في صحَّة نبوَّته، ودلائلها، وأنَّ ذلك مذكور في «التَّوراة» و«الإنجيل»، وأنَّه على دين أبيه «إبراهيم»، كما يذكره «النقَّاش»، ورجَّحه «الطَّبريُّ»، ولم يختر «ابن كثير» غيره، وهو مرويٌّ أيضًا عن «ابن عبَّاس» في قول آخر، وهو الصَّحيح والأولى بالصَّواب في التَّأويل، وأنَّ القول الأوَّل مدسوس عليه؛ لأنَّ ثمَّة «آيات» أخرى تؤيِّد القول الثَّاني في سبب نزولها؛ كقوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُم مُّصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءهُم بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُّبِينٌ}الصف6، وقول أيضًا: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ }الأعراف157، وخير ما يُفسَّر به «القرآن» «القرآن». وفيها دليل يردُّ زعمَ «الشَّنقيطيّ» في أنَّ الَّنبيَّ صلى الله عليه وسلم قد حكم بـ«شرع» «التَّوراة»؛ لأنَّ صريح نصِّ «الآيات» تشير إلى وجوب اتِّباع شرع محمَّد صلى الله عليه وسلم.
وذهب غيره إلى أنَّ «الرَّجم» دلَّ عليه قوله تعالى: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِّمَّا كُنتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ قَدْ جَاءكُم مِّنَ اللّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ}المائدة15، فقد أورد «الطَّبريُّ» ذلك قائلا: «وكان ممَّا يخفونه من كتابهم فبيَّنه رسول الله صلى الله عليه وسلم للنَّاس رجْم الزَّانيين المحصنيين»، وروى عن «ابن عبَّاس» رضي الله عنه قوله: «من كفر بالرَّجم فقد كفر بالقرآن من حيث لا يحتسب». وروى «محمد رشيد رضا» في «تفسيره» قول «ابن عبَّاس»: «الرَّجم في كتاب الله، لا يغوصُ عليه إلا غوَّاص».
وما رواه «الطَّبريُّ» وغيره ممَّن تابعه من «المفسِّرين» لا يثبت عند التَّحقيق؛ باعتماد منهج «تفسير القرآن بالقرآن»؛ لأنَّ الله سبحانه وتعالى قد بيَّن وأظهر ما كان «اليهود» يحاولون إخفائه، كما يذكر «القرطبيّ» من أنَّهم أخفوا قصَّة «أصحاب السَّبت» ومسخهم «قردة»، وبيَّنها تعالى في قوله: {وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَواْ مِنكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ قِرَدَةً خَاسِئِينَ }البقرة65، وكذلك إخفاؤهم ما حرَّم الله عليهم في قوله تعالى: {فَبِظُلْمٍ مِّنَ الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَن سَبِيلِ اللّهِ كَثِيراً}النساء160، حيث بيَّنها في موضع آخر فقال: {وَعَلَى الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلاَّ مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُم بِبَغْيِهِمْ وِإِنَّا لَصَادِقُونَ}الأنعام146، ومنها أيضًا إخفاؤهم صحَّة «نبوَّة» محمَّد صلى الله عليه وسلم، فبيَّنها سبحانه وتعالى في «القرآن» الكريم كما سبق ذكره.
فإذا كانت هذه الأمور والأحكام قد حاولت «اليهود» إخفاءها، وبيَّنها سبحانه وتعالى في كتابه أظهر بيان، فمن الأولى «تبيان» حدَّ «الرَّجم» لو كان «مخفيًّا» كما زعموا؛ إذ إنَّه أولى بالذِّكر؛ لأنَّه حكْم يتعلَّق بـ«إزهاق» حياة «الإنسان» التي كرَّمها الله عزَّ وجلَّ، إضافة إلى أنَّ «النَّفس» لا تُقتل إلا بالحقِّ، ولو كان «الرَّجم» حقًّا لذكره في «كتابه».
يظهر من خلال هاتين الآيتين اللتين حاول «المفسِّرون» أن يثبتوا حدَّ «الرَّجم» فيهما، إلا أنَّ محاولتهم لم تكن صائبةً، لما فيها من تعارض في أسباب النُّزول، وما بيَّناه في ذلك، ولم أجد فيما بين يديَّ من المصادر أدلَّة أخرى غيرهما، إلا من خلال التَّأويل البعيد لبعض «آيات» «القرآن» الكريم، وهي:
أولاً: سورة «النُّور» في حدِّ «الَّزاني» عند قوله تعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُم بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ}النور2.
يظهر في هذه الآية أنَّ الله عزَّ وجلَّ قد سمَّى «الجلد» «عذابًا» في آخر «الآية»، وأن يشهد هذا العذاب «طائفة من المؤمنين». وفي قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُن لَّهُمْ شُهَدَاء إِلَّا أَنفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ }«النور6»، فـ«الزَّوجة» «محصن»، وإلا لما سمِّيت بذلك، وأنَّ الشَّاهد عليها زوجها، وعلى ما ذهب إليه طائفة من العلماء والجمهور فإنَّها تُرجم حتى الموت إن ثبت عليها ذلك، وشهادة زوجها بأربع شهادات.
لكنَّ المتتبِّع للآيات نفسها، باعتماد منهج «تفسير القرآن بالقرآن» يتَّضِح أنَّ ما ذهبوا إليه ليس بصحيح، وإن كانت تدعمه أقوالٌ مأثورة، أو أحاديث صحيحة متواترة، فـ«القرآن» أصل، ولا ينبغي لـ«لحديث» مخالفته، وما خالفه لا يُنْظر إليه؛ ويُقال فيه في أحسن أحواله: إنَّه منسوبٌ إلى «رسول» الله صلى الله عليه وسلم.
وتتمَّة الآيات السَّابقة التي تتحدَّث عن «الزِّنى» وحدِّه نجد قوله تعالى: {وَيَدْرَؤا عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ }«النُّور8». فهذه الآية تشير إلى أنَّ «المحصنة» قد تشهد على زوجها أربع شهادات بأنَّه من الكاذبين فلا يقع عليها «الحدُّ»، وجوهر «الحدِّ» في قوله تعالى: «العذاب»، و«ال» عهدية في «علم العربيَّة»، أي: أنَّ «العذاب» المشار إليه والذي هو حدُّها وتدفعه عن نفسها بأربع شهادات، قد سبق ذكره، ولو عدنا إلى الآيات السَّابقة لوجدنا أنَّ الله سبحانه وتعالى قد وصف «الجلد» كما أشرنا بـ«العذاب»، وأورده هناك نكرة، بينما هنا معرفة، وبما أنَّ «الجلد» سمَّاه الله عزَّ وجلَّ «عذابًا»، فقد ظهر أنَّ «العذاب» المراد بـ«المحصنة »هو «الجلد» وليس «الرَّجم »كما ذهب إلى ذلك كثير من العلماء والأئمَّة.
ثانيًا: سورة «النِّساء» في قوله تعالى:{وَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ مِنكُمْ طَوْلاً أَن يَنكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِن مِّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُم مِّن فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ وَاللّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ فَانكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلاَ مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ وَأَن تَصْبِرُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ}النساء25.
ذهب «المفسِّرون» فيها مذاهب شتَّى، وحمَّلوا ألفاظها ما لم تحتمل، وأخضعوها لبعض ما وصل إليهم من «أحاديث» ليخرجوا من «تعارض» لم يجدوا له سبيلا إلا ذلك، يظهر ذلك من خلال اختلافهم في تفسيرها، فقد زعم بعضهم أنَّ المراد بـ«الإحصان» في قوله تعالى: «فإذا أحصنَّ»: «الإسلام»، وهو قول «الجمهور» ومنهم «ابن مسعود» رضي الله عنه، وهو قول ليس بصحيح، ووصفه «أبو حيَّان» بـ«الضَّعيف»، ويدلُّ على عدم صحَّته ما ذهب إليه «إسماعيل القاضي» من أنَّ صفة «الإيمان» لهنَّ قد تقدَّمت في قوله تعالى: «من فتياتكم المؤمنات»، فكيف يقال فيهنَّ بعد ذلك: «فإذا أسلمن»؟! وأيَّده «أبو حيَّان» حيث قال: «لأنَّ أسلمْنَ فعل دخلت عليه أداة الشَّرط، فهو مستقبل مفروض التَّجدُّد والحدوث فيما يستقبل، فلا يمكن أن يعبّر به عن الإسلام؛ لأنَّ الإسلام متقدِّم سابق لهنَّ». ولا شكَّ أنَّهم في تأويلهم هذا قد بُنيت عليه أحكامٌ، ثبت فسادها لثبوت فساد التَّأويل، فلا يعوَّل عليها.
لذلك فإنَّ الصَّواب في تأويلها ما ذهبتْ إليه جماعة من أنَّ المقصود بـ«الإحصان» هو «التَّزويج»، وهو مرويٌّ عن «ابن عبَّاس»، و«الحسن»، و«ابن جبير»، و«السُّدِّي»، والمراد بـ«العذاب» في قوله تعالى: «فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ وَأَن تَصْبِرُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ}النساء25. هو «الحدَّ» كما في قول «الطَّبريّ»، «و«البغويّ»، و«القرطبيّ» و«أبي حيَّان» وآخرين، وبما أنَّ «الإحصان» هو «التَّزويج»، وأنَّ «العذاب» هو «الحدّ»، وإذا كان «الحدّ» هو «الرَّجم» على ما يزعمون فكيف عليهنَّ «نصف الرَّجم»؟!
وهو بلا شكَّ طريق مسدود؛ لأنَّ «الرَّجم» لا «يتنصَّف» على حدِّ تعبير «أبي حيَّان»، و«لا يتبعَّض» على حدِّ تعبير «القرطبيّ»، لذلك اضطرَّ «المفسِّرون» ممَّن قالوا بذلك إلى إيجاد مخرج جديد، والبحث عن تأويل يفصل حالة الحرج التي وقعوا فيها، فقالوا: إنَّ «المحصنات» هنا «الأبكار» وليس «المتزوِّجات»، وأوَّل من ذكر ذلك «الطَّبريُّ» في تفسيره حيث جاء: «فعليهنَّ نصف ما على الحرائر من الحدِّ، إذا هنَّ زنين قبل الإحصان بالأزواج» ولم يجرِ على عادته في ذكر من قال بذلك، ثم بدأ بالحديث عن «العذاب» فقط. وقد درج «المفسِّرون» بعده على ذلك، على نحو ما نجده عند «القرطبيّ» حيث يقول: «ويعني بالمحصنات هنا الأبكار الحرائر»، ويعلِّل ذلك بقوله: «لأنَّ الثَّيِّب عليها الرَّجم، والرَّجم لا يتبعَّض».
وما ذهبوا إليه ليس بالصَّواب؛ لأنَّ «المحصنات» كما وردت في «القرآن» الكريم جاءت للدَّلالة على «المتزوِّجات» وإليه ذهب «ابن مكحول»، و«ابن زيد»، و«الزُّهريّ»، و«أبو سعيد الخدريّ» وغيرهم، و لا علَّة لجنوحهم عن هذا المعنى إلا للخروج من التَّعارض الذي وقعوا فيها، وما ورد من «أحاديث» في ذلك، وهو ما أشار إليه «محمد رشيد رضا» حيث قال: «ولولا السُّنَّة لكان لذاهب أن يذهب إلى أنَّ الآية التي نفسِّرها خصَّصت الزَّانية الحرة بالمحصنة للمقابلة فيها بين الإماء اللواتي أحصنَّ وبين المحصنات من الحرائر، وقد تقدَّم تفسيرهم لقوله تعالى: والمحصنات من النِّساء، بالحرائر المتزوِّجات، ولكنَّهم لأجل ما ورد في السُّنَّة، فسَّروا المحصنات في هذه الآية بالحرائر غير المتزوِّجات، بدليل مقابلته بالإماء، وليس بسديد»، ونحن نتفق معه في أنَّ هذا الرأي ليس بسديد، فلا ينبغي لهم أن يفسِّروا «القرآن» ويحمِّلوا ألفاظه ما لا تحتمل لإزالة تعارض أوجدوه؛ بل إنَّ «محمد رشيد رضا» يقول: «ثمَّ قيَّدوا المحصنات هنا بقيد آخر وهو كونهنَّ أبكارًا»، ولا أعلم من أين ابتدعوا هذا القيد؟! وكلام الله يأباه؟!
يظهر من خلال ذلك أنَّ «المحصنات» هنَّ «المتزوّجات»، وقد ثبت في سورة «النُّور» أنَّ «العذاب» هو «الجلد»، وجاء لفظ «الزَّاني» دون تخصيص أو قيد، ونصَّت آية «النِّساء» على أنَّ «الإماء المتزوِّجات» عليهنَّ نصف ما على «الحرائر» من «العذاب»، وبما أنَّ «الرِّجم» «لا يتبعَّض»، فبان وظهر أنَّ المراد بـ«العذاب» هنا «الجلد» ليجري الحكْم في «القرآن» الكريم على سَنَن واحد، ويزول الإشكال، وفساد التَّأويل، وجلاء التَّعارض.
أمَّا «الأحاديث» التي يستندُ إليها كثيرٌ من أهل العلم في إثبات حكْم «الرَّجم» فلا يُمكن الاعتماد عليها، سواء أكانت صحيحة من حيث إسنادها أم لا؛ لأنَّه قد ثبت في نصِّ «القرآن» الكريم أن لا رجم البتَّة، وإنِّما حدُّ «الزِّنا»: «الجلد»، وإذا ما تعارضا قدَّمنا النَّصَّ القرآنيّ وهو قطعيِّ الثُّبوت على «الحديث» الذي هو ظنيُّ الثُّبوت، وبما أنَّ «المتن» فاسد فإنَّ دراسة «السَّند» لا طائل منها، وبذل للجهد في غير محلِّه، وسنقتصر على ذكر بعض الأمور التي لا بدَّ منها:
أوَّلا: أورد «البخاري» برقم /3635/، /4556/، /6819/، /6841/ و«مسلم» برقم /1699/: «حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ عَنْ نَافِعٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ الْيَهُودَ جَاءُوا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرُوا لَهُ أَنَّ رَجُلًا مِنْهُمْ وَامْرَأَةً زَنَيَا فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا تَجِدُونَ فِي التَّوْرَاةِ فِي شَأْنِ الرَّجْمِ فَقَالُوا نَفْضَحُهُمْ وَيُجْلَدُونَ. فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ :كَذَبْتُمْ إِنَّ فِيهَا الرَّجْمَ، فَأَتَوْا بِالتَّوْرَاةِ فَنَشَرُوهَا فَوَضَعَ أَحَدُهُمْ يَدَهُ عَلَى آيَةِ الرَّجْمِ فَقَرَأَ مَا قَبْلَهَا وَمَا بَعْدَهَا، فَقَالَ لَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ: ارْفَعْ يَدَكَ فَرَفَعَ يَدَهُ فَإِذَا فِيهَا آيَةُ الرَّجْمِ، فَقَالُوا: صَدَقَ يَا مُحَمَّدُ فِيهَا آيَةُ الرَّجْمِ، فَأَمَرَ بِهِمَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرُجِمَا قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: فَرَأَيْتُ الرَّجُلَ يَجْنَأُ عَلَى الْمَرْأَةِ يَقِيهَا الْحِجَارَةَ».
يظهر من هذا «المتن» أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم يحكُمُ بما وجده في «التَّوراة»، وفيه نظر؛ لأنَّ هذا الموضع يكاد يكون الوحيد فيما أعلم الذي فيه «النَّبيّ» صلى الله عليه وسلم بغير «القرآن»، وهو حكْمٌ يرُّدُه «القرآن» الكريم نفسه؛ إذ لم يوافقوا على «حكمه» كما في قوله تعالى: {وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِندَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِن بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُوْلَـئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ}المائدة43، وفيه كما تذكرُ الأخبار أنَّهم جاؤوا بحثًا عن التَّخفيف والرُّخصة في الحكْمِ؛ إن صحَّ وجود «الرِّجم» عندهم، وهو ما أنكره وأرفضه، لحكم الله الأزليّ في الأرض، إذ لا يمكن أن يحدَّ «حدًّا» بالقتل ثم يعود عنه في شريعة أخرى، وما هو إلا من عمل البشر؛ ويدلَّ على التَّخفيف قوله تعالى: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُواْ بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُواْ النُّورَ الَّذِيَ أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}الأعراف157.
إضافة إلى أنَّهم ذكروا سببًا آخر في نزولها ولا علاقة لـ«الرِّجم» به؛ وإنَّما جاؤوا ليطلبوا التَّخفيف في «الدِّية» وليس «القصاص» بالقتل في رجلين اقتتلا. إضافة إلى أنَّ في هذه الآية على من يرى «الرَّجم» على «اليهوديين» دليلًا على بطلان ما ذهبوا إليه أنّ من شروط إقامة «الحدِّ» «الإسلام».
ومن جهة أخرى احتجَّت جماعة من «الحنفيَّة» بهذه الآية على أنَّ حكْمَ «التَّوراة» وشرائع من قبلنا لازم علينا، وهو أمر سبق شرحه ومناقشته بشيء مقتضب، وليس هذا محل النِّزاع؛ وإن كان ثمَّة تعارض فيه؛ لأنَّ من يرى خلاف ذلك استثنى هذا الموضع وهو «الرَّجم»، وفي ذلك يقول «الرَّازيّ»: «بل المراد هذا الأمر الخاصّ وهو الرَّجم»؛ وهو قول «الحسن»، أمَّا «قتادة» فيرى أنَّه «القود»، وفي قوله «حكم الله»: دلالة على أنَّ هذا الحكم لم يُنسَخ كما ذهب إلى ذلك «أبو عليّ»: «لأنَّه لو نسخ لم يُطلق عليه بعد النَّسخ أنَّه حكم الله، كما لا يُطلق أنَّ حكم الله تحليل الخمر، أو تحريم السَّبت».
ثانيًا: أورد «البخاريّ» برقم /6830/، /7323/، و«مسلم» برقم /1691/ من حديث طويل قول «عمر بن الخطَّاب» رضي الله عنه : «أَمَّا بَعْدُ فَإِنِّي قَائِلٌ لَكُمْ مَقَالَةً قَدْ قُدِّرَ لِي أَنْ أَقُولَهَا لَا أَدْرِي لَعَلَّهَا بَيْنَ يَدَيْ أَجَلِي فَمَنْ عَقَلَهَا وَوَعَاهَا فَلْيُحَدِّثْ بِهَا حَيْثُ انْتَهَتْ بِهِ رَاحِلَتُهُ وَمَنْ خَشِيَ أَنْ لَا يَعْقِلَهَا فَلَا أُحِلُّ لِأَحَدٍ أَنْ يَكْذِبَ عَلَيَّ إِنَّ اللَّهَ بَعَثَ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْحَقِّ وَأَنْزَلَ عَلَيْهِ الْكِتَابَ فَكَانَ مِمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ آيَةُ الرَّجْمِ فَقَرَأْنَاهَا وَعَقَلْنَاهَا وَوَعَيْنَاهَا، رَجَمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَجَمْنَا بَعْدَهُ، فَأَخْشَى إِنْ طَالَ بِالنَّاسِ زَمَانٌ أَنْ يَقُولَ قَائِلٌ: وَاللَّهِ مَا نَجِدُ آيَةَ الرَّجْمِ فِي كِتَابِ اللَّهِ، فَيَضِلُّوا بِتَرْكِ فَرِيضَةٍ أَنْزَلَهَا اللَّهُ، وَالرَّجْمُ فِي كِتَابِ اللَّهِ حَقٌّ عَلَى مَنْ زَنَى إِذَا أُحْصِنَ مِنْ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ إِذَا قَامَتْ الْبَيِّنَةُ أَوْ كَانَ الْحَبَلُ أَوْ الِاعْتِرَافُ..».
وقد حذف «البخاريَّ» قوله: «وقد قرأناها: والشَّيخ والشَّيخة إذا زنيا فارجموهما البتة»، وعلَّق «ابن حجر» بقوله: «ولعلَّ البخاريُّ هو الذي حذف ذلك عمدًا، فقد أخرجه النِّسائيّ عن محمد بن منصور، عن سفيان كرواية جعفر، ثم قال: لا أعلمُ أحدًا ذكر في هذا الحديث «والشيخ والشيخة» غير سفيان، وينبغي أن يكون وهم في ذلك».
وموضع الشَّاهد قوله تعالى: «والشَّيخ والشَّيخة إذا زنيا فارجموهما البتة نكالا من الله والله عزيز حكيم»، وقد تقدَّم أنَّ هذه الآية نُسخت لفظًا وتلاوة، وبقي حكمها، وهو كلام فيه من التَّشويه ما فيه من وجوه:
الوجْه الأوَّل: أنَّ الله عزَّ وجلَّ قد تكفَّل بحفظ «القرآن» في قوله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ}الحجر9، فكيف يمكن القول بأنَّ بعض هذا «الذِّكر» قد تمَّ نسخه وحذفه؟! ثمَّ إنَّ «القرآن» الكريم قد ثبت بـ«التَّواتر»، وقد نصُّوا على ذلك، ولا يمكن إثباته بـ«أحاديث آحاد»، وكذلك الأمر في نسخه وحذف بعضه لا يثبت إلا بـ«التَّواتر».
الوجه الثَّاني: ورد في بعض متن «الحديث» من روايات أخرى قول «عمر بن الخطَّاب» رضي الله عنه: «والذي نفسي بيده، لولا يقول النَّاس: زاد عمر في كتاب الله لكتبتها بيدي»، ولا ندري ما هو السَّبب الذي يمنع «الخليفة» من إثباتها في «القرآن» الكريم؟! ولا مانع يمنعه من ذلك سواءٌ أكان «حديثًا» أم نصًّا قرآنيًّا؛ بل نجدُ رواية تنسب عدم الاستطاعة لـ«النَّبيّ» صلى الله عليه وسلم كما في «النِّسائيّ» حيث جاء: «أنَّ مروان بن الحكم قال لزيد: ألا تكتبها في المصحف؟ قال: لا، ألا ترى أنَّ الشَّابين يرجمان ولقد ذكرنا ذلك، فقال عمر: أنا أكفيكم، فقال: يا رسول الله: أكتبني آية الرجم؟ فقال: لا أستطيع».
بينما نجدُ «الحاكم» من طريق «كثير بن الصَّلت» يروي أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قد كره كتابتها لما سأله «عمر» ذلك، ولا ندري سبب عدم استطاعة، أو كره النَّبيّ صلى الله عليه وسلم كتابة هذه الآية؟! وما أراه إلا من باب «التَّحريف» الذي حاول المشكِّكون أن يدخلوه في «القرآن».
الوجْه الثَّالث: ما ورد في بعض «الأحاديث» أنَّ سورة «الأحزاب» كانت بطول سورة «البقرة»، وكانت فيها آية «الرَّجم»، وهو مروي عن «أبي بن كعب»، لذلك ذهب أهل العلم أنَّ الله تعالى رفع من هذه السُّورة ما يزيد على ما في أيدينا، ورووا عن «عائشة» رضي الله عنها أنَّ سورة «الأحزاب» كانت تعدل «مئتي» آية، «فلمَّا كُتب المصحف لم يقدر منها إلا على ما هي الآن»، وروى «زرّ» قال: قال لي أبيّ: كم تعدُّون سورة «الأحزاب»؟ قلت: ثلاثًا وسبعين آية/ قال: فو الذي يحلف به أبيّ إن كانت لتعدل سورة «البقرة» أو أطول.
ولا يخفى على أحد ما في هذه الأخبار من تدليس وتشكيك، فـ«الرُّواة» لا يعلمون عدد آياتها، ولم يذكروا منها إلا آية «الرَّجم»، أليس الواجب معرفة بقية الآيات المرفوعة بـ«خبر» عمَّن نزل عليه «القرآن»؟! أيجهلُ «أبيّ بن كعب» وهو من «الكَتَبة» هذه «الآيات» المرفوعة؟! ألا يستحق سبب نزولها وهي في «المنافقين» وقفة للبحث عن سبب تخصيصها بالحذف دون غيرها من «السُّور»؟!
الوجْه الرَّابع: ما ورد في صحيح «البخاريّ» برقم /6812/ وغيره أنَّ «عليًّا» رضي الله عنه حين رجم المرأة، ضربها يوم الخميس، ورجمها يوم الجمعة وقال: «جلدتها بكتاب الله، ورجمتها بسنَّة رسول الله صلى الله عليه وسلم»، وهو يدلُّ على أنَّ «عليًّا» لا يقول بأنَّ «الرَّجم» نزل في كتاب الله، ولا أنَّه يدلُّ عليه.
أمَّا من حيث «السَّند» فإنَّ «أحاديث» «الرَّجم» كما أشار الباحث «ظافر النَّحاس» لها طرق ستَّة:
أوَّلها: عن «ابن عبَّاس» رضي الله عنه، وفيه «عكرمة»، و«سماك بن حرب»، فأمَّا الأوَّل فيكذب على «ابن عبَّاس»، وأمَّا الثَّاني فضعيف يغلط مضطرب «الحديث» فلا يعتمد عليه، ولا حجَّة في الطِّريق الأوَّل.
ثانيها: طريق «جابر بن سمرة» تـ74هـ، وفيه «سماك بن حرب»، وهو إضافة إلى ما سبق يلقن فيتلقَّن.
ثالثها: طريق «أبي سعيد الخدريّ» وفيه «المنذر بن مالك بن قطعة» وهو يخطئ، وليس كل أحد يحتجُّ بحديثه.
رابعها: طريق «بريدة بن الحصيب بن عبد الله الأسلميّ» تـ63هـ وفيه سليمان بن بريدة تـ105هـ، وقد وُثِّقَ من قِبَلِ مَن لم يدركه، ومن دون سند توثيق، وفيه أيضًا «بشير بن المهاجر»، وهو منكر «الحديث»، لا يحتجُّ به.
خامسها وسادسها: طريق «أبي هريرة» رضي الله عنه، و«جابر بن عبد الله» وفيهما «الزَّهريّ»، و«ابن تدرس» وكلاهما «مدلِّسان».
وبالمحصِّلة: ما كانت هذه «الأوهام» و«الأحكام» الخاطئة لترى الاستمرار لولا التَّحجير على العقول ومنعها من القول والتّفكير، والعيش في ظلِّ «ديكتاتورية» «فكريّة»، و«عقليّة» و«دينيَّة» ترى في الإبداع الفكريّ الذي في جوهره يقوم على الحوار والنِّقاش المدعَّم بأدلّته العقليَّة والنَّقليَّة عيبًا ومثلبًا ونقصًا ممَّا يدفع كثيرًا من أهله إلى اللّجوء إلى «السَّباب»، و«الشَّتم» في حين أنَّ المطلوب هو تفنيد الفِكْر، وتوسيع المدارك.
بل أكاد أجزم بأنَّ الإصرار على توثيق حدِّ «الرَّجم» إنَّما هو من مماثلة الفعل وردَّة الفعل، لم تكن يدُ «السِّياسة» بعيدًا عنها، فكما أنكر «الخوارج» وبعض «المعتزلة» هذا الحدَّ اجتهد الفريق الآخر بإثباته بعيدًا عن النَّظر في صحَّته أم لا، والله تعالى أعلم.