أقلام القراء / د. محمد عناد سليمان
ذهب بعض أهل العلم إلى أنَّ محاولتنا البحث في صحَّة «الأصول» التي اتخذها كثير من العلماء معيارًا لقبول الآخر أو رفضه، ذهب إلى أنَّ ذلك انتقاصًا من السَّابقين، أو طعنًا بهم، وما أرى ذلك إلا لأنَّهم جعلوا من أنفسهم رهنًا بما وصل، وإعطائه «القداسة» التي لا يجوز لأحد المساس بها، حتى غدا أصلا لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.
ومن قبيل ذلك ما ورد في بعض النِّقاط التي ذكرها الأخ الفاضل «نضال» في تعليقات منثورة على «منشور» قمنا بنشره على «صفحتنا»، حيث قال: «هل إغلاق قناة وصال، وشدا الحرية، وإسكات الشيخ العرعور، سيوقف سكاكين النّصيرية، والمجوس الرَّوافض عن ذبحنا؟».
ونؤكِّد أنَّ إغلاق قناة «وصال» وغيرها لن يوقف القتل، والتَّنكيل من الطَّرف الآخر «الشِّيعة»، لكنَّه قد يزيل حجر عثرة في إيجاد مخرج للأزمة التَّاريخيَّة التي تعاني منها «الأمَّة» منذ ما يزيد على ألف سنة، ونخشى أن يأتي يوم نرى فيه «الشِّيعة» يُقتلون بيد «السُّنَّة» تحت ذريعة «ثارات محمَّد» صلى الله عليه وسلم، و«ثارات عائشة» رضي الله عنها، وهو ما أراه «سياسة» تنتهجها بعض الدُّول «الغربيَّة»، وبعض الدُّول «العربيَّة» للحفاظ على حالة عدم الاستقرار في منطقة «الشَّرق الأوسط».
وقد أشار الأخ «نضال» إلى أنَّ المتحدِّثين على هذه «القناة» قد استخدموا أسلوب «التَّلطُّف» لكنَّهم لم يجدوا إلا مزيدًا من التَّعنُّت والرَّفض من قبل الطَّرف الآخر، ولا شكَّ أنَّ الحكمة والتَّعقُّل تقرُّ بضرورة الاستمرار على هذا النَّهج في التَّلطُّف وإن كان الآخر ملحدًا إذا كان الهدف نشر «الدِّين»، ولا يعني الإصرار والعناد منهم منحنا المبرِّر لنحوِّل «التلطُّف» إلى «عنفٍ»، و«تجييش طائفيّ» لا يأتي إلا بالوبال والخراب.
ولا حجَّة للأخ في ردِّنا لقول الإمام «مالك»، والإمام «أحمد» وجزمنا بأنَّه غير ملزم لنا ولغيرنا؛ لأنّ أحد هؤلاء «الأئمة» لو رأى في سالفه إلزامًا لما كان له رأي جديد، أو تجديد قديم، ولما وجدنا إهمال أهل العلم وتركهم قول الإمام «مالك» في طهارة «الكلب»، الذي لا يكاد يخلو بيت من بيوت «الغرب» منه، ولما وصلتنا آراؤهم التي تختلف فيما بينها اختلافًا كثيرًا، حتى في أعظم ركنٍ وهو «الصَّلاة» التي أفقدوها جوهرها باختلافاتهم في «أركانها»، و«شروطها»، ولا ندَّعي «الوصاية» على أحدٍ، أو ننصِّب أنفسنا حكمًا عليهم؛ بل العبرة في تفنيد «الفكْرِ» وإزالة التَّناقض إن حدث.
ثم عرَّج الأخ على ما نشرناه سابقًا من موقفنا من حدِّ «الرَّجم» الذي ثبت عندنا أنَّه دخيل على «الإسلام» ولا أصل له، ونكاد نجزم بأنَّه من وضْع «القُصَّاص» الذين كان لهم الدُّور الكبير في تشويه كثير من الحوادث التَّاريخيَّة التي مرَّت بها «الأمَّة» في عصورها السَّالفة، وأوجزها بما يلي:
أولاً: لم نختلف معكم في وجود الحدِّ في كتب «الفقه» المختلفة أم لا؛ بل نبحث في صحَّة هذا «الحدِّ» من عدمه، وهو ما نبِّهنا عليه غير مرَّة من ضرورة البحث في «الأصول» التي وصلتنا، ولم نجد إلا قلَّة من العلماء ممِّن تجرَّأ على نقدها وردِّها، ولم يسلم من طعنٍ، أو «تكفير».
ثانيًا: «تغليط» العلماء ليس مثلبة، أو هناةً، إذا كنَّا نقتنع بالخبر: «كلٌّ يؤخذ منه ويُردُّ عليه إلا صاحب هذا القبر»، إضافة إلى اعتقادنا بقوله تعالى: {وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ}يوسف76، ولا يصحُّ في النِّقاش أن نجعل من الفترة الزَّمنية لتقدُّم «السَّابق»، وتأخُّر «اللاحق»، معيارًا لفضل الأوَّل، وصحَّة رأيه وحكمه، واعترافًا بعجز الثَّاني وفساد رأيه وحكمه.
ثالثًا: نحنُ لا نؤيِّدُ فكرَ ورأي «المعتزلة» ونقدِّمه على غيره، بل نؤيِّد الفكر الصَّحيح، وما نراه صوابًا، بغض النَّظر عن معتنقه، وانتمائه، ولا نكترث كثيرًا بهذه «المسمِّيات» التي كانت سببًا في اتِّساع رقعة الخلاف بين أبناء «الأمَّة» حتى وصل الأمر إلى قتِل بعضهم بعضًا، إضافة إلى أنَّ هذه «المسمَّيات» أطلقها المخالفون لأصحابها، ولم تنبع من أهلها، وحسبنا في ذلك «واصل بن عطاء».
رابعًا: دعَّم الأخ الفاضل رأيه بما قد تحتويه كتب «التُّراث» من «تفاسير» وغيرها، خاصَّة ما جاءنا مأثورًا، كتفسير «الطَّبريّ»، و«ابن كثير»، و«السُّيوطيّ» وغيرها من «التَّفاسير»، لكنَّه لم يتنبَّه على أنَّ ما ذكره حجَّة عليه، لا حجَّة له، لأنَّه لو راجع ما ذكروه في تفسير «الآية» التي استشهد بها لعلم صحَّة ما نقول، لإيرادهم اختلافات في تفسيرها، وهنا نطرحُ السُّؤال الدَّائم: لماذا رجَّح «المفسِّرون» رأيًا دون آخر؟ وما هي المعايير التي اعتمدوها في ذلك؟ وليس المقصود من ذلك «الرَّفض» أو «الاتِّهام» كما يقول الإمام «الغزاليِّ» «وإنِّما البحث والتّمحيص من أجل الوصول إلى الحقيقة».
خامسًا: يستند الأخ وكثير من أهل العلم على وقوع «النِّسخ» في «آية الرِّجم»، وهو ما نجزم بعدم صحَّته، ولو افترضنا جدلاً وقوعه كما يرون، فهل يخبرنا هؤلاء بـ«حديث»، أو«خبر» عن «الآيات» الأخرى التي حُذفت من سورة «الأحزاب» إضافة إلى «آية الرَّجم»؟ ألم يجزموا عن طريق بعض «الأحاديث» أنَّها كانت بطول سورة «البقرة»؟ فلمَ لم نجد خبرًا عن بقيَّة الآيات؟!
سادسًا: لماذا يُغفل كثير من أهل العلم ومن بينها الأخ الفاضل كثيرًا من التَّساؤلات التي لا بدَّ من الإجابة عنها فيما يخصُّ حدَّ «الرَّجم»؟ فإذا صحَّ عندهم «حديث» رجم « ماعز الأسلميّ» وهو «الزَّاني» فلم لا نجدُ ذكرًا لـ«الزَّانية»؟ أو خبرًا يشير إلى اسمها أو«رجمها»؟! وإن صحَّ «رجم» «الغامديَّة» فلمَ لا نجدُ ذكرًا لـ«الزَّاني» بها؟ أو خبرًا عن «رجمه»؟! أليست هذه أسئلة مشروعة في «حدٍّ» تُزهق فيه الرُّوح البشريَّة؟ ألا ينبغي أن تعجَّ كتب «التَّاريخ» بهما على اعتبارهما قصَّة نادرة الوقوع؟ ألا يحقُّ لنا أن نعتقد بأنَّهما قصَّة واحدة؟ ألم يقل «ابن جرير» نفسه في «تهذيب الآثار» عن «آية الرَّجم»: «هي في التَّوراة أصلا، ولا وجود، ولا تنزيل لها على رسول الله صلى الله عليه وسلم»؟
سابعًا: رأينا شبيهًا لهذه التَّناقضات عندما جزمنا بعدم حدوث قصَّة «المعراج»، إذ وجدناهم جعلوا قوله تعالى: «نزلةً» بعكس معناها لمّا اعتمدوا ليَّ «النَّص» ليوافق ما وصلهم من «أحاديث»، وجعلوها بمعنى «صعْدة»، ولو افترضنا جدلا صحَّة ما ذهبوا إليه، لألزمناهم وألزمنا أنفسنا بالبحث عن «الصَّعدة» الثَّانية التي دلَّت عليها لفظة «أخرى» في «الآية» نفسها، وهو ما لم نجد له خبرًا، أو أثرًا، أو ذكرًا.
أليست الأسئلة في ذلك مشروعة؟ أم أنَّ العلم انتهى وتوقَّف عندهم؟ ألا يحقُّ لنا إعادة البحث، أم علينا النَّظر بعينهم، والأخذ بحكمهم، وتعطيل «الفكر» و«العقل» عند ما وصلوا إليه؟!