أقلام القراء / مريم صليب
في ذكري تهجير يهود الشتات الذي يوافق يوم 30 من شهر نوفمبر، أحببت أن اهدي هذا المقال ليهود مصر المهاجرين في كل أنحاء العالم.
كلما تذكرت ما قاله الزعيم الثوري جيفارا في القرن الماضي "قد يكون من السهل نقل الإنسان من وطنه و لكن ..من الصعب نقل وطنه منه" شعرت بسحب الحنين المحملة بأمطار الاشتياق تعانق سماء غربتي.
افتخر بكوني فتاة سكندرية المولد و النشأة ، تلك المدينة ذات الطابع اليوناني القديم التي كانت احدي العواصم اليهودية الكبري في العالم. فمن من سيدات مصرلم تشتر أرقي الفساتين من شيكوريل و من لم يشهد بجودة الأجهزة المنزلية التي اجتذبت المئات الي محلات عمر افندي؟!
كانت الساعة حوالي الثامنة صباحا حين خرجت ليلي بإطلالتها المعهودة من منزلها الذي يقع في ميدان المنشية متجهة الي معبد "منسي" الذي أسسه البارون يعقوب دي منشه فاليوم هو السبت يوم العبادة المقدس عند الشعب اليهودي و هو ايضا يوم الراحة من الأشغال. حظت ليلي بمقعدها في الصف الثالث المواجه لجدار المعبد حيث طاقة التوراة بالعبرية و ارتدت غطاء الرأس كعادتها و ابتدت طقوس الصلاة التي استمرت نحو ثلاث ساعات و حين انتهت طقوس الصلاة تقدمت في اتجاه منزلها و رأسها مثقلة بالتفكير في أمور حياتها..
"حمدالله عالسلامة يا ليلي" استوقفها صوت تريز جارتها بالطابق العلوي اسرعت نحوها تحمل طبقا من الحلويات ، فهي تعرف ان ليلي تحب الحلويات . عانقتها ليلي و تبادلت معها القبلات الدافئة "شكرا تريز تعبتك معايا" هكذا ردت بنبرات صوت هادئة.
فقد كان هذا اليوم هو ليلة رأس السنة الميلادية و قد اعتادت ليلي مشاركة صديقتها تريز بهجة هذا اليوم و حين حل المساء كانت تنتظرها ليلي بلهفة ليقضيا معا ليلة العيد بعد انتهاء مراسم القداس بالكنيسة. فبرغم اختلاف طرق العبادة لم يعرف الكره الي قلبيهما سبيلاو مضت الأيام على نحو هادئ يغمره التناغم و الانسجام و الحب و لكن لم تستمر هذه الاجواء طويلا فقد أتت الرياح بما لا تشتهي السفن ..ففي عام 1956 بعد انتهاء الحرب على مصر انقلبت كافة الموازين و بدأت الحرب ضد اليهود بأبشع الصور تمثلت في اعتقال السلطات المصرية اعدادا هائلة من ابناء الجالية عانوا خلالها القتل و التشريد داخل السجون المصرية. الأرض التي خلقوا في سمائها الفن و المسرح و الغناء و السينما لم تنصفهم الحياة فيها ..فلم يعرف قلب ليلي ألم يضاهي ألم الغربة و المهانة في وطنها الذي حملها منذ ولادتها و حملته في قلبها لسنوات طويلة و بلغ الأمر اقصاه حين صدر القرار بتهجير اليهود من مصر فوقع الخبر على نفسها كالصاعقة. كابوسا واقعيا تمنت لو لم يكن حقيقة! كتمت صرخات الألم داخل قلبها و راحت تجمع حقائبها و تلملم ذكرياتها المبعثرة و ما تبقي لها من أشواق داخل حقائب الوداع..
انهمرت الدموع من عينيها و هي داخل احضان سامية صديقتها المسلمة التي توسلتها بألا تغادر مصر و تهجرها فلم تعرف طعم السعادة الا معها بعد ان رحل والداها عن الحياة .."حتي و ان افترقنا بالجسد ستبقي ارواحنا تتعانق للأبد، سيبقي كل شبر في داخلي يذكرني باجمل ايام قضيناها و ان حجب القدر رؤيتك عني فستكونين دائما بطلة أحلامي بلا منافس"
حملت ليلي حقائبها الي ميناء الاسكندرية حيث كانت تنتظرها سفينة الرحيل . امتلأت عينياها بالدموع و قلبها يعزف سيمفونية الوداع الاخير على اوتار الحزن "و لكنهم لن يستطيعوا ان ينتزعوا حبك من قلبي ابدا"
سلام لكل الطيور التي اجبرتها أوطانها على الرحيل و لن يملك قطار رحيلها خطا للعودة..